المتعارف عليه عند الناس أن من خسر ماله فهو الخاسر، ومن ربح مالاً إضافيًا على ماله فهو الرابح، وأن صاحب المال الوفير هو الغني وأن الفقير في نظر الناس من لا مال له، ولكن كثيرا ما يرى الناس أمورا هي في ميزان الله تختلف عنها في موازينهم..
يروي الإمام ابن كثير في كتابه البداية والنهاية عن صهيب الرومي رضي الله عنه عن بعض أحداث الهجرة فيقول: "وخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة، وخرج معه أبو بكر، وكنت قد هممت معه بالخروج فصدني فتيان من قريش، فجعلت ليلتي تلك أقوم لا أقعد، فقالوا قد شغله الله عنكم ببطنه، ولم أكن شاكيا - فناموا .. فخرجت ولحقني منهم ناس بعد ما سرت يريدوا ليردوني، فقلت لهم: إن أعطيتكم أواقي من ذهب وتخلوا سبيلي وتوفون لي؟ ففعلوا، فتبعتهم إلى مكة، فقلت: احفروا تحت أسكفة الباب فإن بها أواقي، واذهبوا إلى فلانة فخذوا الحلتين، وخرجت حتى قدمت على رسول الله صلى الله عليه وسلم بقباء، قبل أن يتحول منها، فلما رآني قال: (يا أبا يحيى ربح البيع). فقلت: يارسول الله ما سبقني إليك أحد، وما أخبرك إلا جبرائيل عليه السلام".
وحادثة صهيب في الميزان البشري تعد خسارة لصهيب، ولكن قول رسول الله صلى الله عليه وسلم له (يا أبا يحيى ربح البيع) تدل على أنه ربح في ميزان الله، ذلك أن موازين الإسلام تختلف عن موازين البشر في عقولهم المحدودة، فالله سبحانه وتعالى يقول في كتابه الكريم: {إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ}[التوبة:111].
فعلى هذا يكون من باع نفسه وماله في سبيل الله رابحًا وضامنًا للجنة التي لا يوجد شيء على الأرض أغلى منها، بل إنه كما جاء في الأحاديث الصحيحة، إن الحورية من الجنة لو أطلعت لغطت شعاع الشمس، ولو وقع خمارها على الأرض لعطر الأرض كلها، إلى ما فيها من أنهار العسل واللبن والخمر والماء، وما فيها من الأشجار، التي سيقانها من الذهب، وما فيها من القصور المبنية من الذهب، وما فيها من النعم والملذات التي لا يحصى عددها إلا الله سبحانه مما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر.
فلا شك أن من ربح هذه الجنة مقابل بذله لما يملك من مال في الدنيا يكون رابحًا في ميزان الإسلام، وأنه لا يدخل أحد الجنة حتى يثقل ميزانه بالأعمال الصالحة، لذلك قال تعالى: {فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ}[لأعراف:8].
أما الخاسرون في ميزان الإسلام فهم ليسوا أولئك الذين خسروا أموالهم في الدنيا بالتجارة أو بغيرها، لكنهم الذين خفت موازينهم يوم القيامة بسبب قلة أعمالهم الصالحة التي قاموا بها عندما كانوا في الدنيا، لذلك قال تعالى: {وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فِي جَهَنَّمَ خَالِدُونَ}[المؤمنون:103].
فميزان الناس في أغلب أحيانه إنما يعتمد على المظاهر وعلى أساسها يكون التمييز بين الناس، وأما ميزان الله فهو يزن الأمور والأشخاص بالبواطن مع الظواهر وبالسريرة قبل العلانية، وهذا عين ما وضحه النبي صلى الله عليه وسلم لأصحابه كما روى البخاري عن سهل بن سعد قال: مررجل على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: ما تقولون في هذا؟ قالوا: حري إن خطب أن ينكح، وإن شفع أن يشفع، وإن قال أن يسمع.قال:ثم سكت، فمر رجل من فقراء المسلمين، فقال: ما تقولون في هذا؟ قالوا : حري إن خطب أن لا ينكح ، وإن شفع أن لا يشفع، وإن قال أن لا يسمع. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: هذا خير من ملء الأرض مثل هذا).
فكان ميزان الله تعالى وميزان رسوله على النقيض من ميزان الناس، ومدار التفضيل والتكريم والرفعة عند الله على قدر ما في القلوب من الإيمان واليقين والدين.
من هو المفلس
ولترسيخ معنى مفهوم الربح والخسارة عند الصحابة رضي الله عنهم، قال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم في ذات يوم مختبرًا تغلغل هذا المفهوم عندهم: (هل تدرون من المفلس؟). قالوا: المفلس فينا يا رسول الله من لا درهم له ولا متاع. قال: (إن المفلس من أمتي من يأتي يوم القيامة بصيام وصلاة وزكاة ويأتي قد شتم هذا وقذف هذا، وأكل مال هذا، وسفك دم هذا، فيعطى هذا من حسناته وهذا من حسناته، فإن فنيت حسناته قبل أن يقضي ما عليه من الخطايا أخذ من خطاياهم فطرحت عليه ثم طرح في النار"[رواه مسلم].
فهذا هو المفلس في نظر الإسلام، وذلك هو الرابح، الذي ربح الجنة ببذله المال والنفس في الدنيا.
وعلى ميزان الله يكون قارون رغم كل ما كان يملكه مفلسا وكل من دخل الجنة من فقراء زمنه أغنى منه: (تِلْكَ الدَّارُ الآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لا يُرِيدُونَ عُلُوّاً فِي الأَرْضِ وَلا فَسَاداً وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ) (القصص:83).