روى البخاري ومسلم عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: حدثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو الصادق المصدوق: (إن أحدكم يجمع في بطن أمه أربعين يوما، ثم يكون علقة مثل ذلك، ثم يكون مضغة مثل ذلك، ثم يبعث الله إليه ملكا بأربع كلمات، فيكتب عمله، وأجله، ورزقه، وشقي أم سعيد، ثم ينفخ فيه الروح، فإن الرجل ليعمل بعمل أهل النار، حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع، فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل الجنة فيدخل الجنة. وإن الرجل ليعمل بعمل أهل الجنة، حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع ، فيسبق عليه الكتاب ، فيعمل بعمل أهل النار ، فيدخل النار).
لقد روى ابن مسعود عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قرابة الألف حديث ولم يصدر واحدا منها بهذا التصدير، فلماذا اختار هذا الحديث بالذات ليبتدئه بهذه البداية؟ وهل كان رضي الله عنه في بقية ما رواه عن النبي صلوات الله وسلامه عليه لا يراه صادقا مصدوقا؟!
حاشاه... ولكن الذي ينظر إلى الحديث نظرة الباحث المتفحص يرى أن هذا الحديث قد حوى أشياء لم تكن تدركها عقول أهل ذاك الزمن، ولم تكن قد بلغتها علومهم، فهو حديث عن غيب في كيفية تكوين الأجنة ومراحل ذلك في بطون الأمهات وأرحام النساء، كما تحدث معهم فيه عن كتابة الأقدار وأعمال العباد وأعمارهم وأرزاقهم وشقاوتهم وسعادتهم وأن ذلك سبق خلقهم بأزمان كما قد دون في الكتاب السابق قبل خلق السموات والأرض بخمسين ألف سنة، زد على ذلك ما جاء في آخر الحديث أن من العباد من يعمل بعمل أهل الجنة أكثر عمرة ثم عند النهاية يختم له بعمل أهل النار فيدخلها أو العكس... وكل هذه أمور تحتاج إلى قلب مصدق بكلام المتحدث صلى الله عليه وسلم.
التصديق والتسليم
لقد بين ابن مسعود في هذا الحديث الجليل وبهذه التقدمة الرائعة كيفيه تلقي الصحابة لحديث المصطفى الكريم صلى الله عليه وسلم وكيفية تعاملهم مع كلامه، ألا وهو القبول التام والتصديق الكامل والجازم لكل ما جاء عنه عليه الصلاة والسلام، وإن كان مما لا تبلغه علومهم أو حارت فيه عقولهم أو حتى مما خالف معارف الناس في أزمانهم كما جاء في صحيح مسلم عن أَبي قَتَادَةَ قَالَ: كُنَّا عِنْدَ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ فِي رَهْطٍ مِنَّا وَفِينَا بُشَيْرُ بْنُ كَعْبٍ، فَحَدَّثَنَا عِمْرَانُ يَوْمَئِذٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "الْحَيَاءُ خَيْرٌ كُلُّهُ قَالَ أَوْ قَالَ الْحَيَاءُ كُلُّهُ خَيْرٌ". فَقَالَ بُشَيْرُ بْنُ كَعْبٍ إِنَّا لَنَجِدُ فِي بَعْضِ الْكُتُبِ أَوْ الْحِكْمَةِ أَنَّ مِنْهُ سَكِينَةً وَوَقَارًا لِلَّهِ وَمِنْهُ ضَعْفٌ. قَالَ فَغَضِبَ عِمْرَانُ حَتَّى احْمَرَّتَا عَيْنَاهُ وَقَالَ أَلا أَرَانِي أُحَدِّثُكَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَتُعَارِضُ فِيهِ (وفي الرواية الأخرى ـ عند مسلم أيضا ـ قال عمران: أُحَدِّثُكَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَتُحَدِّثُنِي عَنْ صُحُفِكَ؟)، فَأَعَادَ عِمْرَانُ الْحَدِيثَ، فَأَعَادَ بُشَيْرٌ، فَغَضِبَ عِمْرَانُ.. قَالَ فَمَا زِلْنَا نَقُولُ فِيهِ: إِنَّهُ مِنَّا يَا أَبَا نُجَيْدٍ إِنَّهُ لا بَأْسَ بِهِ.
قال الإمام النووي رحمه الله في شرح الحديث: وَقَوْلهم: (إِنَّهُ مِنَّا لا بَأْس بِهِ) مَعْنَاهُ: "لَيْسَ هُوَ مِمَّنْ يُتَّهَم بِنِفَاقٍ أَوْ زَنْدَقَة أَوْ بِدْعَة أَوْ غَيْرهَا مِمَّا يُخَالِف بِهِ أَهْل الاسْتِقَامَة." اهـ.
فكأن المعهود عندهم أنه لا يخالف كلام الرسول صلى الله عليه وسلم أو يعارضه إلا متهم بنفاق أو زندقة أو بدعة.. فالأصل في كلام النبي صلوات الله وسلامه عليه أن يُسلَّم له ولا يعارض برأي أو هوى... وهذا ما علَّمه أبو هريرة لعبد الله بن عباس ترجمان القرآن وفقيه الإسلام حين حاول معارضة الحديث بالرأي، ففي سنن ابن ماجه عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "توضؤوا مما غيرت النار". فقال ابن عباس: أتوضأ من الحميم؟ فقال له: يا ابن أخي إذا سمعت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم حديثا فلا تضرب له الأمثال.
قاعدة الصديق الأكبر
لقد كان هذا منهم منهجا تميز به خير القرون وأزكاها عند الله تعالى، وهو منهج من تبعهم بإحسان إلى يوم الدين. وقد لخص لنا الصديق الأكبر هذا المنهج وتلك الحقيقة في كلمتين حينما جاء المشركون إليه صبيحة ليلة الإسراء ليخبروه أن صاحبه يزعم أنه أسري به من مكة إلى بيت المقدس ثم عاد في ذات الليلة وهم الذين يضربون إليها أكباد الإبل شهرًا ذهابا وشهرًا إيابا، وكان ظنهم أنه سيكذب صاحبه أو يشكك حتى في نسبة الكلام إليه، لكن الإجابة جاءت على غير ما توقعوه، وجاءهم بها ناصعة قوية يحملها التاريخ لكل من يأتي بَعدُ من المؤمنين لتكون لهم قاعدة وأصلا: "إن كان قال فقد صدق".
فليس المهم ما قال، ولكن المهم أنه قال؛ لأن كل كلامه صدق وحق ووحي. فهو الصادق الذي لا يَكذِب، والمصدوق الذي لا يُكذَّب.
إن المؤمن الحق ـ إذًاـ هو الذي يوقن بصدق كل حرف نبست به شفة الكريم صلى الله عليه وسلم، يوقن بذلك يقين من يعلم أن قبل ليوم البارحة وأن بعد اليوم غدا.
يؤمن بذلك ويوقن به لأنه كلام المعصوم الذي لا ينطق عن الهوى، والصادق المصدوق الذي لا يتطرق إلى كلامه كذب، لا لأنه كلام أيدته النظريات العلمية أو وافقته التجارب المعملية!! فإن أمثال هؤلاء في الحقيقة لا يؤمنون به عليه الصلاة والسلام ولا بما جاء به، وإنما يؤمنون بالنظريات والتجارب فإن وافقت كلامه قبلوه وصدقوه وإن خالفته ردوه وكذبوه، وليس هذا شأن المؤمنين، وإنما شأن المؤمنين ما قاله الإمام الشافعي رضي الله عنه: "آمنا بالله، وبما جاء عن الله، على مراد الله، وآمنا برسول الله، وبما جاء عن رسول الله، على مراد رسول الله صلى الله عليه وسلم.
حرب علاجها التسليم والتصديق
إننا نعاني في زماننا هذا حربا ضروسا على ديننا، وتشكيكا عنيفا في ثوابتنا، وهجوما على قرآننا، وتكذيبا ـ من الكافرين والمرجفين ـ لكلام رسولنا صلوات الله وسلامة عليه، ولا تقابل هذه الحرب الشعواء إلا بيقين لا يساوره شك، وتصديق لا يشم رائحة التكذيب، وإيمان راسخ رسوخ الجبال في صحة ديننا وصدق نبينا متبعين في ذلك قاعدة الصديق الأكبر: "إن كان قال فقد صدق" ..
"وإن تطيعوه تهتدوا وما على الرسول إلا البلاغ المبين"... وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.